عبد الكريم قاسم .. شيء عن نشأته في بغداد والصويرة

    

عبد الكريم قاسم .. شيء عن نشأته في بغداد والصويرة

         

ولد عبد الكريم قاسم في (21 تشرين ثان- نوفمبر 1914) في محلة المهدية من رصافة بغداد. لم يُلاحظ من كتب عن عبد الكريم قاسم، انخراطه في صباه في أعمال  صبيانية شريرة، خاصة وأن محلات بغداد القديمة وما اتسمت به من أزقة ضيقة،لا توفر لسكنتها وسائل الترفيه الاجتماعي، ما بالك بالنسبة للأطفال وصخب حياتهم، مما يدفع بالعديد منهم إلى ارتكاب الحماقات البريئة وغير البريئة.

في الخامسة من العمر يدخل الطفل كرومي(أسم التدليل لعبد الكريم كما متعارف عليه في العراق) إلى أحد الكتاتيب مقابل جامع الفضل بن ربيع في الرصافة،  ليتعلم، كعادة أهل ذلك الزمان وخاصةً في المدن الكبرى والدينية، القراء والكتابة وما يتيسر له من حفظ سورة من القرآن الكريم، والتي كانت تديره " الملاية فاطمة الحاج مصطفى عبد الله الجبوري،ابنة إمام وخطيب جامع الفضل ". لقد مكنه هذا التعلم في الصغر من الولوج في عالم القراءة التي سيشغف بها في مراحل عمره القادمة. كما مكنته من امتلاك أسس اللغة العربية وتفتح ذهنيته على واقع اللغة وجمالياتها الادبية وسلالة المنطق القرأني وبداعته.. مما اثر إختياره لاحقاً للدراسة في القسم الأدبي في الإعدادية، وكانت عوناً له في امتلاك الذوق الأدبي وفي رسم الصورة الجمالية للجملة العربية وهذا ما تميز

في الصويرة
 وتحت وطأة الحاجة، كما أعتقد، التي أصابت كل الطبقات الفقيرة, وفي المدن خاصةً، بعد الاحتلال البريطاني الأول نتيجة للتغيرات الجذرية في الحياة الاقتصادية وسرعة حراكه وإيقاعها وما رافقها من تضخم نقدي هائل، تسافر العائلة عام 1919/1920 إلى مدينة الصويرة، جنوب شرقي بغداد بحوالي 60 كم, ليعمل رب الأسرة في البدء نجاراً ثم صاحب (علوة) للمنتجات الزراعية ويدير في الوقت نفسه المتبقي من الأرض الزراعية التي تعود ملكيتها للعائلة. وتسكن في بيت بالقرب من نهر دجلة.
آنذاك يدخل الصبي عبد الكريم ( أقل من6 سنوات), ثانيةً, أحد كتاتيب الصويرة والذي كان يديره الملا سيد محمد سيد إبراهيم الموسوي, نظراً لتوقف الدراسة في عموم العراق عام 1920.. وما ان افتتحت المدارس أبوابها, عام 1921 حتى ُقبل في الصف الأول في مدرسة الصويرة الابتدائية التي تأسست عام 1918 والتي كان يديرها آنذاك غلام محمد الهندي الجنسية. ويدرس فيها مدة أربع سنوات لحد الصف الرابع.
ومن مقابلاتنا لابناء المدينة بغية تقصي الحقائق عن سيرة الصبي عبد الكريم يتضح أنه كان ذكياً ومتفوقاً في دروسه كما يدلل سجله المدرسي في سجل الطلاب العام رقم 1 الصفحة 2, إذ كان من المتفوقين في دراسته, وحصل على ما مجموعه 120,5من مجموع 130, عندما كان في الصف الرابع الابتدائي. لم يدون في السجل احوال الطالب الصحية ولا طبيعة سيرته التي بقيت بيضاء, مقارنةً ببعض الطلاب الآخرين حيث كتب في سجل عن الطالب ( ج.م.س.) أنه " شرس الطباع والاخلاق, مشاكس للأوامر المدرسية, ضعيف في دروسه, قليل الاهتمام بها, كثيراً ما يحرض الطلاب الكبار على الاضراب والاستياء من المدرسة " . أما عن الطالب (ح.ع.ب) فقد سجل في اسباب تركه الدراسة : " قام مقام والده في رئاسة عشيرة زبيد وأشتغل بالزراعة". ويشير السجل إلى ان عدد من الطلاب تركوا الدراسة بسبب فقر الحال وإلتحاقهم بالحياة العملية. في الوقت الذي بقى فيه سجل عبد الكريم خال من الملاحظات.. سوى كونه :" سافر إلى بغداد لاكمال تحصيله في إحدى مدارس العاصمة".
وعند الاستفسار من مدير المدرسة عن معنى خلو صفحة عبد الكريم من الملاحظات.. قال: " من المرجح هناك عاملان .. اما إهمال الادارة لتدوين مثل هذه الملاحظات .. أو أن سلوك الطالب العام ليس فيه ما يثير الانتباه وهذا الأخير أكثر ترجيحاً" .
ومن الامور الشائعة في مدينة الصويرة أنهم يتناقلون عن لسان أحد معلمي المدرسة أنه سأل ثلاثة طلاب هم عبد الكريم قاسم وعبد الكريم فرحان ابن المدينة وعلي مهدي حسن, عن ماذا يريدون أن يكون كل منهم في المستقبل؟
-اجاب الأول : أنه يريد أن يكون ضابطاً كبيراً في العراق .. وقد تحققت أمنيته.
-وأجاب الثاني: أنه يريد أن يصبح ضابطاً وأحارب عبد الكريم قاسم.. وتحققت هذه الامنية له.
-في حين أجاب الثالث : أنه يريد أن يكون تاجراً كبيراً وله مكانة مهمة, وحقق ذلك.
وفي هذه المدينة الصغيرة الواقعة على نهر دجلة جنوب شرقي بغداد، والتي هي عبارة عن حاضرة ريفية اقرب منها إلى المدينة الحضرية، كانت منظومة القيم العشائرية واعرافها هي التي تتحكم بسكان المدينة وأغلب سكانها من العشائر العربية أو المستعربة ذات أصول كردية فيلية. كما تمتلك المدينة علاقات مع محيطها الريفي المجاور لحواضر يسكنها منذ آلاف السنين الأكراد الفيليون كموطن اصلي لهم يمتد إلى عمق الأراضي الإيرانية.
أثرت المدينة في عبد الكريم بصورة كبيرة جداً.. انعكست في ذلك التبادل الروحي بينه وبين سكان المدينة.. ولم استطع الوقوف على سر علاقة (المكان) الصويرة وارتباط عبد الكريم بها, رغم أنه ليس من ابناءها الاصليين, ولم يمكث فيها فترة طويلة.. كما لم يستطيع شيوخ أهل المدينة الذين استطعت مقابلتهم, في حل لغز هذه العلاقة وطبيعة سرها.. سوى انهم اعتمدوا صيغ الوفاء التي تحلى بها قاسم إزاء بعض ابناءها الذين تسنموا مراكز عليا في الدولة. وربما هناك مؤثرات نابعة من اللاوعي لمرحلة الطفولة تسكن في ذات الصبي عبد الكريم.. فتفاعل مع محيطها تفاعلاً ايجابياً.
عاش عبد الكريم كبقية أقرانه من أبناء العوائل المتوسطة والفقيرة .. ومارس الحياة على طبيعتها وعمل مساعداً لوالده كبقية سكان الحواضر الريفية. وقد أقام عبد الكريم علاقات اجتماعية مع صبية المحلة التي سكن فيها وأغلبهم من فقراء الواقع الاجتماعي، ومارس معهم الألعاب التي كانت متوفرة، إذ كان النهر والحقل أماكن لقضاء أوقات فراغ الأطفال بعد المدرسة.
كان من بين أقرانه : " عبد الجبار الأعرج وكاظم من عائلة عمران… وبعد أن ترك عبد الجبار المدرسة أخذ يعيش من مهنة بيع الفشافيش .. وتمر الأيام ويتولى عبد الكريم قاسم حكم العراق . وتستملك الدولة الدور التي كانت تحيط بالدار الذي سكنها عبد الكريم في طفولته لبناء مدرسة عليها بعد تعويض أصحاب الدور تعويضاً عادلاً كان موضع رضاهم. وبينما كان عبد الكريم يلقي خطاباً في افتتاح المدرسة، تقدم الصفوف عبد الجبار الأعرج ليواجه عبد الكريم فمنعه الحرس… فلمحه وعرفه عبد الكريم فتوقف عن خطابه وناداه جبار.. جبار وأندفع جبار ولاقاه وصافحه بحرارة وسأله أين كاظم ؟ فاخبره بوفاته، ثم أخذ يسأل عن أخوان كاظم واحداً واحداً وعن أمه ومحل سكناه . ثم عاد واكمل الخطاب واستصحبه معه وأنقده 50 ديناراً من راتبه وخصص له راتباً شهرياً قدره عشرة دنانير من بلدية الصويرة وسمح له بمراجعته في أي وقت يشاء ".
كما حدثني النائب الضابط السابق حمزة محي عبد الله من مدينة الصويرة ذاتها، من انه لديه علاقة معرفة جيدة بجبار(الأعرج), وهو الذي أنقذ الطفل عبد الكريم من الغرق.. إذ كانت والدة عبد الكريم تعمل في المزرعة العائدة للعائلة بالقرب من نهر دجلة حيث كان يعيش، في حين كان الابن يسبح مع أقرانه وقد غرق وشاهدت الأم ولدها ومعاناته فأخذت تصرخ وتطلب النجدة. وكان جبار بالقرب منهم فهب لنجدة الطفل وانقذه من الغرق المحتم.

في بغداد ثانية
عادت العائلة إلى بغداد ثانيةً عام 1926. لم نستطع الوقوف على أسباب العودة ، فهل كان ذلك لتحسن وضعها الاقتصادي ؟ أم بلوغ الابناءحامد وعبد اللطيف وقاسم مرحلة دراسية لم تكن متوفرة في المدن الصغيرة آنذاك؟ أم كان وراء العودة الثانية إلى بغداد هو توفر عوامل الجذب المتعددة، مقارنة بعوامل الطرد الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية الدافعة للهجرة من المدن الصغيرة؟ ومن المرجح أن السبب الاخير هو الذي كان وراء العودة إلى بغداد، خاصةً وأن أعمال نجارة (الشناشيل) كان سوقها الأساسي هو المدن الكبرى فحسب وهي تلبي الكماليات الجمالية للفئات الغنية والميسورة.
سكنت العائلة هذه المرة وأستقرت لفترة طويلة في محلة (قنبر علي) المجاورة لمحلتها السابقة (المهدية). وتقع قنبر علي، عند ملتقى ثلاث محلات شعبية بغدادية هي: إبراهيم عرب والمهدية والفضل. وهي الأخرى معروفة بفقر سكانها وتدني مستوياتهم المعيشية, وهم ينتمون إلى أثنيات وطوائف متعددة، ففيهم: العربي والكردي، اليهودي والمسيحي ومسلمين من سنة وشيعة، بغداديين ( ومتبغددين) وريفيين ومتريفين نزحوا من القصبات والمدن المجاورة لبغداد.
 بمعنى أخر عاشت العائلة في وسط اجتماعي خليط عكس من جهة واقع التركيبة الاجتماعية للمجتمع، ومن جهة ثانية أثر في نفسيات أفراده الذين سادت بينهم النظرة التسامحية مقارنة بالمحلات البغدادية المغلقة على طائفة محددة أو دين واحد أو قومية معينة والتي كانت تزخر بها بغداد آنذاك.
أنتقل الصبي عبد الكريم إلى المدرسة المأمونية في العاصمة بغداد, لينتفل إلى مدرسة الرصافة، ليتخرج بعد سنة واحدة، أي في نهاية العام الدراسي 1926-1927. وقد رصد أحد معلميه حينئذ، حالة التي يتمتع به من ذكاء وفطنة وذاكرة القوية وقدرة على حفظ الدروس بدون عناء، لذا أخذ يرعى هذا الطالب ويحثه ووالديه على ضرورة إكمال دراسته اللاحقة ولا يتركها، لأن تسرب الطلاب بعد المدرسة الابتدائية كان عالياً جداً آنذاك.
كان عبد الكريم يعمل مع والده في ورشة النجارة بعد الدوام المدرسي وأثناء العطل الصيفية، مما أتاح له التعرف على طبيعة الأعمال الجسمانية ومشاق العمل مما عزز اعتماده على ذاته وتقوية شخصيته وتعزيز الثقة بها أكثر فأكثر. وكان في الوقت نفسه، يبعده عن مزالق الجنوح وما يترتب على التسكع في الأزقة والطرقات من مشاكل، ناهيك عن مساعدة والده واكتساب الخبرات الحياتية وما تطرحه من استفهامات فيما هو ومحيطه عليه.. هذا العمل كان ، كما أشرنا سابقاً، قد مثل أحد العوامل المبكرة التي عودته على الصبر الذي اصبح حكمته الأولى في الحياة.

    

و بعد إكماله الدراسة الابتدائية بتفوق، يدخل عبد الكريم في الثانوية المركزية للبنين في عام 1927 " وداوم فيها سنة واحدة ثم نجح إلى الصف الثاني الثانوي وترك المدرسة سنة واحدةلآسباب مرضية وداوم بعدها في الصف الثاني, فحاز شهادة الدراسة المتوسطة.. " ويختار الفرع الأدبي، ويتخرج منها بعد أن قضى فيها مدة 5 سنوات عام 1931.
هذه الثانوية كانت الوحيدة في مدينة بغداد آنذاك، وكانت بمثابة المنبت الرئيس للكوادر المستقبلية للدولة العراقية. وكانت تضم بالأساس أبناء نخب الحكم السياسية في الدولة وأبناء العوائل الأرستقراطية والتجار وعلية القوم في المجتمع، ومن مختلف الطوائف والأديان. كما كانت تضم المدرسة عدداً قليلاً من أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة. حفز هذا الخليط الطلابي المتمايز طبقياً، الطالب عبد الكريم على مجاراة زملاءه من خلال التفوق العلمي.. بمعنى إن فقر حاله المادي كان حافزاً قوياً على بث روح التحدي لديه في هذا الوسط الاجتماعي . وقد نجح في تحديه، إذ اكمل دراسته الثانوية بتفوق كبير على مدار السنوات الخمس. وفي السنة الأخيرة أكمل دراسته في الدور الثاني, لأنه في" أثناء الامتحان النهائي ألم به مرض أضطره دخول المستشفى، ففاتت عليه فرصة الامتحان المذكور، ولما شفى من مرضه، أمتحن مع الطلبة المكملين ونجح في جميع الدروس بتفوق  ". كان عبد الكريم متفوقاً في كل مراحله الدراسية (الابتدائية والثانوية وفي الكليتين العسكرية والأركان وكذلك الدورات المهنية) وكان دائماً ضمن المراتب الأولى حسب التقارير الرسمية وما أشار إليه أغلب مدرسيه.
لوحظ أثناء دراسته في الثانوية نزعته نحو تأكيد الذات بصورة أكبر مما سبق، مقترنةً  بشغف التفوق العلمي على الآخرين. هذا الميل يبدو مستنبط من الإحساس بالمعاناة الطبقية مما وَلَدَ لديه نزعة روح الإصرار والتحدي والتفوق، في ظروف منافسة غير متساوية من حيث توفر إمكانيات الدراسة ولكون بعض الطلبة كانوا ينظرون بازدراء لزملائهم من العوائل الفقيرة وزادها حقدا لتفوقه المدرسي. كان الطالب عبد الكريم سباقاً لقاعة الدرس. وكان يجيب على أسئلة مُدرسيه بسهولة ويسر.
 وفي الوقت نفسه ذاق مرارة التمايز الطبقي، خاصةً وكا اشار أصدقائه إلى أنه كان مرهف الحس ودائم التفكير بما هو عليه. وكان يرى ببصيرته هذا التناقض الذي بدء يعيه بصورة حادة، مما جعل منه لاحقاً متمرداً على التمايز الاجتماعية المرير.
بدأ هذا التحول الذي حدده شرط نشأته الأولى، ذلك أنه كان منذ وقت مبكر شديد الحساسية إزاء القضايا الوطنية والاجتماعية.. إذ منذ مراهقته، وحتى قبلها في صباه، وجد نفسه حاملاً احلاماً مستقبلية وهموما شتى.. منها على البعد العائلي وثقل الحياة المادية.. إلى هواجس الشباب واحلامها السياسية التي كانت مستعرة في الوسط المتعلم.. إلى اللبنات الفكرية الأولى التي بذرها الرواد الأوائل للفكر الاشتراكي في العراق والتي أخذ ذهنه يتفتح عليها.. إلى العاصفة الاجتماعية التي سرت في المجتمع العراقي حول المرأة وتحررها.. وحرية الرأي وثقافته.. والعمال وأرهاصاتهم الطبقية الأولى .. والمعاهدة العراقية- البريطانية لعام 1930 والمعارضة ضدها.. هذه الظروف شغلت الكوامن النفسية للمراهق عبد الكريم.. ترى كيف زاوج بينها.. واي منها لعب الدور المحرك في وعيه الاجتماعي وتجلياته؟ هذا ما لا استطيع البت فيه, لانعدام الوثيقة المكتوبة والشفاهية.
وفي الوقت نفسه يستحيل علينا، في الظرف الراهن، في غياب المعطيات الدقيقة والموضوعية، قياس عمق هذا الوعي الذي أكتسح عقل وروح الشاب قاسم ومداه.. لكن يمكننا القول أنه كون فكرة عامة، لا يخلو منها الغموض والمثالية، عن أسباب الظلم والتمايز الاجتماعيين، نظراً لقلة أو انعدام المصادر الفكرية التي يمكن أن تعلل ذلك بروح علمية بعيدة عن القدرية والتبريرية التي تزخر بها مصادر الفقه التقليدي الذي كان حضوره واسع في الحياة المعرفية.
لقد دَرَسَ عبد الكريم العديد من الأساتذة في الثانوية المركزية، عراقيين وعرب وأجانب، منهم: محمد بهجت الأثري؛ طالب مشتاق؛ شيت نعمان؛ وصديق الخوجة؛ علي مظلوم ومحمود الملاح وغيرهم. وقد تبوء بعضهم مناصب مهمة بعد 14 تموز. فمثلا أسند الزعيم قاسم منصب مدير عام مديرية الأوقاف إلى الأول، ومنصب سفير العراق في تركيا إلى الثاني، الذي كتب في مذكراته عن الطالب قاسم: " أنه تلميذ قديم من تلاميذ المدرسة الثانوية المركزية في بغداد سنة 1927. أنه تلميذ هادئ، يبتعد عن مخالطة زملاءه، ويقضي فترة التنفس في زاوية منعزلة. مظهره يعلن عن فقر الحال وفقدان المال، مكتئب النفس، عابس الوجه، ضعيف البنية، مشروم الشفة العليا من جهتها اليسرى، وهذه العاهة، على ما يبدو سببت له شعوراً بالنقص جعلته منقبضاً على نفسه ويتجنب الاجتماع برفاقه والناس أجمع ".

  

قاسم ام جاسم ؟!
ادعى العديد من الكتاب، ومنهم احمد فوزي، أن الزعيم قاسم قد غير اسم أبيه من جاسم إلى قاسم عام 1930, ويكرر ذات المعلومة مجيد خدوري ويعلل ذلك بالقول: " لعل السبب في ذلك أن كلمة جاسم هي اللفظة العامية لكلمة قاسم ". ويقول حسن العلوي أن الأخ الأكبر لعبد الكريم " كان معروفاً بإسم حامد جاسم، ولدى استفسارنا عن الاختلاف بين قاسم الذي يسمى به عبد الكريم وجاسم الذي يسمى به حامد.. قالت أم حامد أن عبد الكريم قاسم رفض منذ وقت مبكر كلمة جاسم .. وقال الصحيح هو قاسم  ".
وعند مراجعتنا لسجلات مدرسة الصويرة الابتدائية وجدت أن اسمه كان (عبد الكريم جاسم) وتسلسله رقم 2 في سجل قيود الطلبة للعام الدراسي 1923/1924 وكذلك كان اسم أخيه (عبد اللطيف جاسم). كما كان يطلق عليه في الصويرة أسم (جاسم افندي) كما أفاد لنا بعض شيوخ المدينة المعمرين.
ولقد سبق وان اعتمدنا هذه المعلومة وتبنيناها في كتاباتنا السابقة من المصادر أعلاه. لكن هذا الطرح استفز مشاعر الروائي المبدع محمود سعيد وانتابه الشك في صحتها وهو الضليع المحب في تاريخ عبد الكريم قاسم، فتقفى أثر هذه المعلومة من مصادرها الأصلية.. وكتب لي رسالة يعترض بالبرهان على عدم دقة المعلومة. فكتب موضحاً يقول :
 " ذهبت بنفسي إلى مديرية تسجيل نفوس الكرخ سنة 1991 واستخرجنا الأوليات وقابلت أولاد أخ المرحوم حامد قاسم، ولم يسمع أحد ذلك إلا وضحك لسذاجة الخيال والاتهام والتشويه. ذكر لي السيد فتحي وكان مكلفاً بالشؤون القانونية في المديرية بأنه لا يُقبل أي طلب بتبديل الاسم إلا إذا وصل من المحكمة وفيه أمر منها. أما القضية الأهم فإن المحكمة لا تصدر قراراً بتغير الاسم إلا إذا كان الموما إليه حاضراً.. أي كان والده حاضراً وأن القضية تتعلق بالأخر وتغير الاسم الشخصي.. وأراني الصفحة خالية من أي شطب ".

   

كما استفسرت بدوري من حسين حامد قاسم عن هذه المعلومة وقال أنها غير صحيحة ونفى حدوث مثل ذلك. وقال أن الأسرة تحتفظ بشجرة نسبها الذي يعود إلى جنوب الجزيرة العربية.
واستفسرت أيضاً من المهندس طالب حامد قاسم في ابو ظبي وأخيه الأكبر عدنان , وأبن عمته المهندس طلال عبد الجبار جواد وأخيه الأكبر رعد في بغداد, وقد نفوا جميعهم حدوث مثل هذا التغيير. وقد أكد لنا طالب حامد أنه عندما اراد الدخول إلى الجامعة, طُلب منه شهادة الجنسية العراقية.. ونظراً لقدم إخراج والده ليها ولتعذر أخراج الملفات القديمة من ارشيفات مديرية الجنسية.. تم الاستناد إلى ملف عمه عبد الكريم واعتمدوها كإثبات قانوني وكانت هي الأخرى خالية من التعديل لاسم الوالد.

 

وعندما دخل عبد الكريم الكلية العسكرية عام 1932. كان أسمه عبد الكريم قاسم.  لكن كان أسم أمينة في سجلات النفوس هو( أمينة جاسم) وصحح في عام 1975 إلى قاسم, حسب إفادة أبن أختها رعد عبد الجبار.
 وحسب اعتقادي إن هذا الاشكال ربما يعود إلى عدم دقة المعلومات التي كانت تنتاب سجلات الاحوال المدنية (النفوس). ومن المحتمل الضعيف أنه جرى تعديل, وإن كان قد جرى فعلاً, فهو بعد صدور قانون الجنسية العراقية عام 1924, وبالتأكيد قبل عام 1932 (عام دخول عبد الكريم للكلية العسكرية), إذ أوجب القانون المذكور على كل عراقي أن يثبت تبعيته العثمانية السابقة حتى يكون عراقي الجنسية.. ولذا جرت تعديلات في كل انحاء العراق, شملت بعض الاحيان الأسم أو اللقب وحتى تاريخ الميلاد. أو ربما تم ذلك لتلافي الاخطاء التي قد تحدث في سجلات التفوس لافراد العائلة الواحدة.وبغض النظر عن صحة هذه المعلومات من عدمها, ما الظير في ان يكون أسم والده قاسم أم جاسم.. رغم أن النغمة الموسيقية لأسم قاسم أخف وطأةً وأكثر تذوقاً على السمع من أسم جاسم. ولماذا أتخذ ولازال, مناهضيه ذلك سبةً عليه.. وكم من شخصية مشهورة أو غير مشهور, قد أبدلت أسمها.. بل  حتى غيرت من انتماءها الأثني؟

عن كتاب ( من ماهيات سيرة عبد الكريم قاسم )
المصدر: المدى
الكاتب:د. عقيل الناصري

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع