عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته (الحلقة الرابعة عشر)

       

عبد السلام محمد عارف.. كما رأيته (الحلقة الرابعة عشرة)

              

     

سرت شائعة فقدان طائرة عبد السلام في البصرة عندما لم يحضر الرئيس والمحافظ حفل عشاء في فندق شط العرب اقامه الثاني تكريما للأول

      

عبد السلام عارف في البصرة

لم يلفت انتباهنا كثيراً ذلك الخبر الذي نشرته صحف الثلاثاء الثاني عشر من نيسان (ابريل) 1966 عن مغادرة اللواء عبد الرحمن عارف رئيس أركان الجيش وكالة، بغداد الي موسكو علي رأس وفد عسكري كبير، رغم ان وكالات الانباء العالمية والعربية ركزت في تعليقاتها مساء ذلك اليوم، علي أنها محاولة من العراق لإعادة علاقاته التسليحية والعسكرية مع الاتحاد السوفييتي، فقد كان علمنا كـ(حرس جمهوري) وكما كان مقرراً ومعلناً في جميع الصحف العراقية الصادرة قبل ثلاثة أيام بأن رئيس الجمهورية قد غادر مطار بغداد الدولي صبيحة ذلك اليوم الي البصرة يرافقه ثلاثة من الوزراء هم:

   

اللواء عبد اللطيف جاسم الدراجي وزير الداخلية والدكتور محمد ناصر وزير الثقافة والارشاد والدكتور مصطفي عبد الله طه وزير الصناعة وعدد من المسؤولين الآخرين، وقد أقلّتهم إحدي طائرتي الرفّ الجمهوري من طراز (توبوليف 124).

وصول طائرات الهليكوبتر الي البصرة

منذ صباح يوم السبت التاسع من نيسان (ابريل) كان المرافق الاقدم لرئيس الجمهورية العميد زاهد قد أصدر أمراً يقضي بإرسال ثلاث طائرات هليكوبتر من بغداد الي البصرة، لاستخدامها في تنقلات رئيس الجمهورية والوفد المرافق له أثناء تجواله هناك، وقد أقلعت في صباح الإثنين الحادي عشر من نيسان (ابريل) الطائرات الثلاث من قاعدة الرشيد الجوية، حيث قاد النقيب الطيار خالد محمد نوري آمر السرب الرابع وكالة، الطائرة الاولي وكانت الثانية بقيادة الملازم الاول الطيار منذر سليمان عزت، بينما قاد الملازم الاول الطيار عثمان نوري علي الطائرة الثالثة، ولم يصطحبوا معهم سوي الملازم الطيار مذكور فليح الربيعي معاوناً لهم، بمثابة (طيار احتياط) قد يحل محل أحدهم لأي سبب كان، وبعد رحلة دامت حوالي ساعتين، هبطت الطائرات الثلاث في قاعدة الشعبية الجوية قرب البصرة في ضحي ذلك اليوم.

منهج الثلاثاء الحافل

عندما هبطت الطائرة النفاثة التابعة للرف الجمهوري وتوقّفت علي أرض مطار البصرة كان في مقدمة مستقبلي رئيس الجمهورية السيد محمد الحياني متصرف (محافظ) البصرة، واللواء الركن عبد المجيد سعيد مدير الموانئ العام، وذلك في صباح الثلاثاء الثاني عشر من نيسان )ابريل) 1966، وبعد ان سلم الرئيس علي مستقبليه واحداً بعد الاخر، انطلق موكبه نحو المدينة، في حين احتشدت الجماهير علي جانبي الطريق تحيّيه تصفيقاً وهتافاً، حتي وصل الي الموقع الذي تقرّر أن يُقام فيه جامع يخّلد استشهاد (العقيد جلال أحمد اسماعيل) الذي سحله الشيوعيون عام 1959 وقتلوه ومثّلوا بجثته، وبعد ان وضع عبد السلام عارف الحجر الاساس للجامع، توجّه الموكب الي آمرية موقع البصرة ليلتقي بضباطها ومراتبها، ويرتجل فيهم أول خطاب له في تلك الرحلة، ثم توجه الي نادي القاعدة الجوية وتناول طعام الغداء في حدائقه. وبعد ذلك، اخترق الموكب شوارع البصرة المزدانة بالأعلام والأقواس والجماهير المحتشدة بصعوبة كبيرة، متوجهاً الي قضاء أبي الخصيب ليضع حجر الأساس لمعمل الأسمدة الكيميائية هناك، قبل ان يتوجه الي مدينة الزبير لحضور وليمة عشاء أقامها أهلها تكريما له، حيث اُستقبل بحفاوة بالغة واستمع الي كلمات الترحيب وقصائد الشعراء.

                

وقف عبد السلام والقي خطابا مرتجلاً تضمن عبارات واضحة تشير الي التحركات الاستعمارية في منطقة الشرق الاوسط والخليج العربي، حيث عرج الي قيام بريطانيا بنقل قاعدتها العسكرية من عدن الي البحرين، وهنا تقدّم منه متصرف البصرة محمد الحياني هامساً في اُذنه عبارة لم يسمعها أحد، ولكن الرئيس قال صائحا: وماذا يعني؟ فليكن ما يكون؟
واستدرك عبد السلام عندما انتبه الي ان الحاضرين لم يفهموا شيئاً، فأضاف مفسّراً ان الاخ محمد يقول: ان من بين المدعوين عددا من القناصل العرب والاجانب.. لا يهمّ! وهل انا خائف منهم؟! عندها قوبل بعاصفة من التصفيق الحاد، ولم يغادر الرئيس مدينة الزبير الا قبيل منتصف الليل.. في حين لم يكلف إحدي طائرات الهليكوبتر في ذلك اليوم بأية مهمة.

منهج الاربعاء المرهق

في صبيحة يوم الاربعاء، الثالث عشر من نيسان (ابريل) 1966 كان موكب رئيس الجمهورية متوجهاً نحو مدينة الهارثة، وعند وضعه الحجر الاساس لمعمل الورق فيها، كانت حشود كبيرة من المواطنين تردّد الأهازيج، وتؤدي الدبكات الشعبية، واطلاق الهتاف الذي كان سائداً في عموم (إحنا جنودك يا سلام)، ثم انطلق الموكب نحو قضاء القُرنة يحيط به فرسان يمتطون خيولاً عربية أصيلة يواكبون عبد السلام بالأهازيج ومن دون أن يتوقف في تلك المدينة، فقد توجه الي قرية (الهوير الكبير) التي أعدّ فيها الشيخ الحاج جمعة العبادي بيت قصب ضخما لضيافة الرئيس وصحبه، حيث ربط أمامه جملاً لينحره مع مجاميع من الخراف.
ومن قرية الهوير، انطلق الموكب الكبير لتجتاز سياراته مناطق الاهوار، الي ناحية (المدينة)ليستقلّ الرئيس وصحبه زوارق بخارية مع وجهاء المنطقة عابرين نهر الفرات، حيث تجمّع الناس، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، يحيّون رئيس الجمهورية بالتصفيق والهتاف والأهازيج، حتي عاد الي قضاء القرنة، حين كان قائمقام القضاء عبد اللطيف الجبوري قد هّيأ طعام الغداء، ضمن وليمة كبري، لم يتم تناوله إلا في الساعة الرابعة والنصف عصراً.
وبينما كان عبد السلام عارف يلهي نفسه بطعام خفيف، وقد بدت علي وجهه السعادة والفرح، فقد كان يدعو الآخرين لتناول هذا الصنف من الطعام أو ذاك، قبل ان يطلب (سجّادة) لأداء صلاة العصر، والتي ستكون الأخيرة في حياته، ويهّم بعد ذلك بمغادرة القرنة للعودة الي البصرة بطائرات الهليكوبتر، حيث انتهي منهج الزيارة لذلك النهار.

العودة الي البصرة ليلا

استناداً الي التوقيتات المحددة لمنهج الزيارة، وتأسيساً علي الخطّة الموضوعة سلفاً، والمبلّغة الي الطيارين والحضور عموماً، فقد كانت طائرات الهليكوبتر الثلاث التي هبطت في ملعب الادارة المحلية لمركز قضاء القرنة قبيل الساعة الواحدة من ظهر ذلك اليوم، جاهزة من جميع الوجوه لإعادة رئيس الجمهورية وصحبه من القرنة الي البصرة، حيث كان الموعد المقرر للإقلاع هو الساعة الرابعة والنصف عصراً.
ولكن الذي حدث، ان عبد السلام عارف كان لا يزال جالساً في الحديقة المطلّة علي مياه النهر حتي الساعة الخامسة والنصف، متحدثاً مع الوزيرين:

اللواء عبد اللطيف الدارجي، والدكتور مصطفي عبد الله، والعميدين المهندسين: جهاد أحمد فخري مدير عام مصلحة الكهرباء الوطنية*، وعبد الهادي الحافظ وكيل وزارة الصناعة، عندما انتصب أمامه قائمقام قضاء القرنة عبد اللطيف الجبوري، ملتمساً منه حضور مهرجان شعبي أقيم تكريما له في ملعب الادارة المحلية وسط المدينة. وأجابه عبد السلام عارف: ولكن الوقت أدركنا، وليس من المعقول ان نتأخر عن الساعة السادسة، لأن الطيارين لا يقدرون علي الطيران ليلاً!
وتحت إلحاح ورجاء شديدين اضطر عبد السلام الي الاستجابة مع بعض التردّد، فسار مع صحبه راجلاً الي الملعب الذي طوّقته الجماهير من جهاته الاربع.

       

وبدأ المهرجان، وتتابعت الخطب الطويلة والعبارات الرنانة والقصائد حتي وجد عبد السلام نفسه مضطرا لإلقاء كلمة، تحوّلت الي خطاب مرتجل ودافئ، إذ قال فيه: إننا لم نكن نريد لأنفسنا مكاسب معينة حينما ثرنا، بل كان ذلك من أجلكم، لتأمين حياة أسعد لكم، وإننا لا نعمل في سبيل تلبية مطاليب أهالي القرنة فحسب، إنما نتمني لو استطعنا ان (نزوّجكم) جميعاً، ونذراً عليً يا أهل القرنة، لو أمدّ الله في عمري لأزوّجكم جميعاً، لتنجبوا لهذا الوطن صبياناً وبنات نفتخر بهم.

وفي تلك اللحظات سمع عبد السلام صوت المؤذن الداعي الي صلاة المغرب، فاستبشر كثيراً قبل ان يقول: وهذه شهادة علي صدق حديثي ان شاء الله وأعتذر عن عدم البقاء اطول مما بقيت معكم، فالطيارون لا يستطيعون أن يطيروا، وأنا أطلت البقاء، فكيف أقوم بواجباتي يوم غد لا سيما وان منهجاً حافلاً آخر ينتظرني هذه الليلة؟

الوداع الأخير

وبدأ الظلام يحل شيئاً فشيئاً، بعد أن غربت شمس ذلك اليوم في حوالي الساعة السادسة، ولربما لم يتحسّس معظم الحضور ذلك، فقد كانت الساحة منارة بتسليط أضواء ضخمة عليها وقد جاوزت الساعة السادسة والنصف، عندما راح عبد السلام يلّوح بيديه مودّعاً الجماهير، وسط تصفيق حاد تخلّلته الأهازيج والهتافات العالية، وتوجّه محاطاً بصحبه الي حيث كانت طائرات الهليكوبتر تنتظر والهتافات تتعالي: (إحنا جنودك يا سلام) و(عبد السلام محبوبنا.. مكتوب جوّه قلوبنا) وفي مدخل الطائرة قال عبد السلام لمودّعيه بصوت عال: (في أمان الله.. في أمان الله). فرد عليه الحضور: في أمان الله.. في أمان الله يا أبو احمد.

وصعد معه في الطائرة نفسها كل من عبد اللطيف الدراجي وزير الداخلية، ومصطفي عبد الله وزير الصناعة، وجهاد أحمد فخري مدير عام الكهرباء. وعبد الهادي الحافظ وكيل وزارة الصناعة، ومحمد الحيّاني متصرف (محافظ) البصرة، والعميد زاهد محمد صالح المرافق الاقدم للرئيس، وعبد الله مجيد سكرتير عام رئاسة الجمهورية. وبعد أن تم تشغيل محرك الطائرة والتأكد من سلامة الأجهزة والمعدات، صعد اليها نائبا الضابطين: الكهربائي محمد عبد الكريم، والبرّاد كريم حميد.
وركب في الطائرة الثانية كل من بايز عزيز متصرف (محافظ) الناصرية، وابراهيم الولي رئيس التشريفات وكالة، والمقدم الركن فاضل مصطفي أحمد (مقدم لواء الحرس الجمهوري)، والمقدم الركن قاسم حمودي آمر موقع البصرة وكالةً، والمقدم الركن زكي الصائغ (ضابط ركن الموقع)، وشاكر الغرباوي رئيس بلدية الناصرية، وأحمد الحسّو مسؤول الاعلام في رئاسة الجمهورية، وفيصل حسون نقيب الصحافيين، وعبد العزيز بركات رئيس تحرير صحيفة (المنار).
أما الطائرة الثالثة فقد كانت مخصّصة للصحافيين والمصورين ومراسلي الصحف والإذاعة والتلفزيون والسينما. اقترب الملازم شهاب احمد الدليمي (1) ـ آمر فصيل الحماية الشخصية ـ من الرئيس عبد السلام قبيل صعوده الي متن الطائرة، ليوضّح له ان صداعاً شديداً قد ألمّ برأسه، بعد أن أرهقته تدابير الحماية والجولات الطويلة منذ الصباح الباكر لذلك اليوم، وأنه لا يستطيع الصعود في الطائرة، وسيعود الي البصرة بالسيارة الخاصة المكشوفة مع السائق حميد بلاسم،
فرد عليه رئيس الجمهورية ساخراً: (إتخسه .. انت السبع وتخاف من الطيارة؟) و(إتخسه) مفردة شعبية عراقية تعني (عيب)، كان ذلك قبل أن يسلّم عبد السلام نظارته الطبية ومسدّسه الشخصي الصغير من طراز (وبلي) الي مرافقه الشخصي الملازم الاول رشيد علوان المهداوي ويوصيه قائلاً باللهجة العامّية: (دير بالك علي شهاب.. مبيّن ما له خُلُك)، وتعني خذ بالك من زميلك الملازم شهاب المريض والمصاب بالصداع، وكانت تلك آخر عبارة سمعها الملازم شهاب من الرئيس.
أما الطيارون، فعندما شاهدوا رئيس الجمهورية وهو يتّجه سيراً علي الأقدام نحوهم، أراد قائد التشكيل النقيب الطيار خالد محمد نوري، التأكد من سلامة عمل واتصال الأجهزة اللاسلكية، فنادي بالجهاز علي قائد الطائرة الثانية الملازم الاول الطيار منذر سليمان عزت، فأجابه بوضوح. وفي الساعة السابعة إلا عشر دقائق مساءً، أقلعت الطائرة الاولي، وتبعتها الثانية بعد لحظات، فارتفع الغبار الكثيف بسبب سرعة الدوران الشديدة لمروحتي الطائرتين، وذلك دأب الطائرات السمتية عند الاقلاع، وخصوصاً اذا كانت الارض التي تحتها هشّة وترابية أو رملية.
وبعد عُطل أصاب محرك الطائرة الثالثة، وتم إصلاحه خلال أربع دقائق، أقلعت الطائرة الثالثة بقيادة الملازم الطيار عثمان نوري علي، يعاونه الملازم الطيار مذكور فليح الربيعي، متبّعة الطائرتين نحو البصرة في طيران ليلي، كان مقررا له ان يستمر حوالي نصف ساعة. وبعد طيران دقيقتين تقريباً في ذلك الظلام الدامس، وعندما علم المراقب الجوي لمطار البصرة الدولي فريد عبد الاحد ان إحدي الطائرتين تحمل رئيس الجمهورية، أعطي للطيارين التقرير الجوي الاعتيادي باللغة العربية وتضمن: (اتجاه الريح 350 درجة، سرعة الريح: 4 عقد جوية، مدي الرؤية 4 كيلومتر مع وجود أتربة معلّقة في الجو، الغيوم معدومة، الضغط الجوي: 1008.6 ملّيبار). ولم يتلقّ الطيارون بعد ذلك، سواء من مطار البصرة، أو من غيره أي تحذير لأي سوء في الاحوال الجوية السائدة، وبينما تأمن تبادل الرؤية بين الطائرتين الاولي والثانية، فإن ثالثتهما كانت متأخرة عنهما، ولكن الاتصال اللاسلكي بين الطيارين جميعاً كان قائما، وهم يحلّقون علي ارتفاع ستة الآف قدم.

الكارثة

وفجأة ومن دون سابق إنذار أو تحسّس، وبعد طيران دام حوالي خمسة عشر دقيقة بعد الإقلاع من القرنة، وجد الملازم الاول منذر قائد الطائرة الثانية نفسه في منطقة جيوب هوائية مؤثّرة علي طائرته، وأحسّ الركاب بهزّات عنيفة، وأصبح مدي رؤيته صفراً، بسبب الغبار الذي ملأ الجو المحيط به. تلقّي منذر مكالمة من خالد قائد التشكيل وطائرة الرئيس، يطلب منه الايعاز الي قائد الطائرة الثالثة عثمان بالعودة الي القرنة فوراً، وسمع حواراً من خالد وهو يطلب من مطار البصرة ان يحدّد اتجاه طائرته وموقعها، ولما أحسّ منذر بتلكؤ سيطرة المطار في الإجابة، تدخل بينهما ليقول للمراقب الجوي في ذلك المطار، وبلهجة عنيفة: ألا تفهم؟ النقيب خالد معه السيد رئيس الجمهورية، حدّدوا له اتجاهه وموقعه بسرعة، إلا أن ردّ السيطرة كان: أنه لا توجد لديهم أجهزة لتحديد الاتجاه.. أدار منذر المكالمة مع سيطرة قاعدة الشعيبة الجوية، فكان الجواب سلباً، فلا يتوفر لديهم أيضاً جهاز لتحديد الاتجاه. أحس منذر بالرعب خلال تلك الدقائق، حتي سمع خالد يقول يستنجد به: (منذر.. منذر، لك عيني إلحكني ـ أغثني ـ انا في خطر).. وفي تلك اللحظة بالذات وقعت طائرة منذر في جيب هوائي كبير، جعلها تنخفض عن ارتفاعها حوالي ثلاثة آلاف قدم خلال لحظات، حتي وجد نفسه فوق منطقة أهوار، كّلها مياه، حاول منذر رؤية طائرة خالد، فلم يستطع، واتخذ قراراً بالعودة الي القرنة، وهبط بطائرته في ملعب الادارة المحلية نفسه، في حوالي الساعة السابعة وعشرين دقيقة، أي بعد طيران دام حوالي نصف ساعة، بعد ان ظل ينادي خالد لاسلكياً طوال طريق العودة دون جدوي، وليجد أمامه طائرة عثمان وقد سبقته في الهبوط في الموقع نفسه، نزل منذر مسرعاً من طائرته، وصاح بصوت عال، موجهاً كلامه نحو المقدم الركن فاضل مصطفي (مقدم لواء الحرس الجمهوري) قائلاً: سيدي.. طائرة المشير تاهت!
وهنا فقط، أدرك الركاب في الطائرة، أنهم لم يهبطوا في مطار البصرة كما كان مخططاً، بل أنهم في القرنة مرة اُخري، ساد الهرج ساحة الملعب، وسط ارتباك وقلق كبيرين، وبأوامر فورية فتحت السيارات أضواءها، وأشعل أهالي القرنة النيران فوق سطوح منازلهم، عسي ان تهتدي الطائرة المفقودة اليها،

  

اتصل منذر عبر الهاتف الوحيد في ملعب القرنة بمطار البصرة، موضحاً تفاصيل الموقف، وطالباً منهم إنارة مدرج الهبوط علّها تساعد الطيار في التوجّه نحوه، ثم صعد منذر في طائرته، وأقلع لوحده، وحلّق فوق القرنة ليرسل إشارات ضوئية الي جميع الاتجاهات، وحاول الاتصال لاسلكياً بالطائرة المفقودة، دون جدوي. ومضي الوقت ساعة بعد اُخري دون نتيجة، فقرر الجميع التوجه نحو البصرة بالسيارات.

  

في فندق شط العرب

كانت مأدبة العشاء التي أقامها متصرف (محافظ) البصرة محمد الحياني في فندق شط العرب جاهزة (2) وكان جميع المدعوين من كبار الضباط والموظفين ووجهاء المدينة ينتظرون عودة رئيس الجمهورية وصحبه من جولته في القرنة، حتي اقتربت الساعة من التاسعة مساءً عندما بدأوا يتهامسون عن أسباب هذا التأخير غير الاعتيادي، حتي سرت (إشاعة) فقدان الطائرة التي لم يشأ أحد تصديقها، ولما لم يحضر صاحب الدعوة محمد الحياني والمُحتفي به الرئيس عبد السلام عارف حتي بعد العاشرة ليلاً، انصرفوا خائبين وقلقين.
وفي إدارة الفندق، اجتمع الدكتور محمد ناصر وزير الثقافة والارشاد مع اللواء الركن عبد المجيد سعيد مدير عام الموانئ العراقية بحضور كبار الضباط وإداريّي البصرة ومديري الشرطة والامن، للتباحث حول إجراء اتصالات هاتفية فورية مع بغداد،

       

كان أولها مع الاستاذ عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء، وذلك قبل ان ينتقل الجميع الي ديوان (المتصرفية ) المحافظة ليتّخذوه مقراً لعملهم الدؤوب حتي الصباح، وفي تلك الساعات كذلك، تم الاتصال هاتفياً بالمخافر الحدودية العراقية مع إيران، ومع القنصل العراقي في مدينة المحمرة (خرّمشهر) الايرانية، حيث قيل له ان طائرة هليكوبتر تحمل شخصيات عراقية مهمة قد ضلّت طريقها وسط عاصفة ترابية، ولربما تكون قد دخلت الاجواء الايرانية، ولكنهم لم يتلقّوا جواباً.

 

إذاعة بغداد تبث الخبر الحزين

ساد الوجوه وجود الجميع، وسري النبأ في أروقة الاذاعة والتلفزيون وبين الجنود كالنار في الهشيم، فيما أحضر موظفو الاذاعة وبأمر من مديرها العام، أشرطة القرآن الكريم، وأخذت الاذاعة تبثّ التلاوات حال افتتاح برنامجها اليومي منذ الساعة السابعة صباحاً، واستمرت علي ذلك حتي حلّت الثامنة صباحاً، لتذيع بيانا رسميا جاء فيه: تنعي الحكومة العراقية، مع مزيد من الحزن والأسي، للشعب العراقي وللأمة العربية وللشعوب الإسلامية عامة، السيد رئيس الجمهورية المشير الركن عبد السلام محمد عارف، فقد سقطت به، وبمن معه من الوزراء والمرافقين مساء أمس الطائرة التي كانت تقّله من القرنة الي البصرة بفعل عاصفة قوية أدت الي سقوط الطائرة وتحطّمها واستشهاد السيد الرئيس ووزيري الداخلية والصناعة، وبعض المرافقين.

      

            عراقيات يبكين بعد اذاعة الخبر المؤلم

وتعلن الحكومة الي الشعب كافة، بأنها تقدّر مسؤوليتها في هذه الفترة العصيبة، وقد اُنيطت مهام السيد رئيس الجمهورية بالسيد رئيس الوزراء، حسب أحكام المادة (56) من الدستور المؤقت، الي حين إنتخاب رئيس جمهورية بمقتضي المادة (55) من الدستور، والتي تقضي بانتخاب رئيس جديد خلال اسبوع واحد من تأريخ خلوّ المنصب، وذلك بأغلبية ثلثي المجموع الكلّي لأعضاء مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني.

في قاعدة الشعيبة الجوية

وسط القلق الذي بات يتزايد ساعة بعد اُخري، والأمل الذي تضاءل شيئاً فشيئاً حتي انتصف الليل.. جمع آمر القاعدة الجوية المقدم الركن الطيار خالد حسين ناصر طياري الطائرات المقاتلة في قاعدته، ليضع معهم في غرفة العمليات خطة طيران لاستطلاع بصري، ينبغي تنفيذها مع حلول فجر اليوم التالي،

  

وفعلا عندما حانت الساعة الخامسة فجراً، كان طيارو تسع طائرات مقاتلة من طراز (ميك 21)، قد أقلعوا بها تباعاً، وقد سبقتهم طائرة نقل سوفييتية الصنع من طراز (انتونوف 12) علي متنها المقدم الركن فاضل مصطفي (3) والصحافي عبد العزيز بركات ومصور تلفزيوني. لم يطُل التحليق كثيراً، ففي الساعة الخامسة وعشرين دقيقة، كان قائد وركاب طائرة النقل هم أول من شاهدوا طائرة الهليكوبتر وقد تناثرت اجزاؤها حطاماً في أرض قاحلة ومستوية تماماً تتوسّطها، أو علي مقربة منها، احدي عشرة جثة هامدة ومحترقة.. وكان الموقع الذي حدّده قائد الطائرة يبعد خمسة وعشرين كيلومتراً جنوب شرقي القرنة، وفي بقعة تتبع إداريا ناحية السُويب شرقي نهر شط العرب، ما بين هوري الحويزة والسويب، وفي نقطة ليست ببعيدة من قرية (النشوة). وقد ابلغ الرائد الطيار محمد إبراهيم أدهم هذه المعلومات، قاعدة الشعيبة، عندها قرر المقدم الطيار الركن خالد حسين ناصر، آمر القاعدة التوجه الي مكان الحادث في إحدي طائرات الهليكوبتر التي قادها الملازم الطيار مذكور فليح الربيعي، والتي هبطت في مكان الحادث.
كانت شمس يوم الخميس الرابع عشر من نيسان (ابريل) 1966، قد أشرقت تماماً، وبان كل ما علي وجه الارض القاحلة القريبة من قرية النشوة واضحاً، وظهر حطام الطائرة متناثرا في بقعة قطرها بحدود خمسين مترا، كان الرئيس عبد السلام علي بعد ثلاثة أمتار من نقطة الاصطدام، مُنكفئاً علي وجهه، وقد تشابكت يداه حول رأسه، مُلصقاً وجهه بالأرض، فيما بات شعره محترقاً في بعضه، عاكفاً إحدي ساقيه الي اليسار وقد احترق كعب قدمه، مرتدياً بدلته المدنية الصيفية ذات اللون الزيتوني، بينما تمزّق قسم من سترته عند الظهر.. وكانت قطرات من الدم متخّثرة علي فتحتي أنفه، وحالما شاهد الملازم شهاب رئيس الجمهورية ذلك الوضع المأساوي، خلع قمصلته العسكرية ليغطي بها الجثة الهامدة، قبل ان يسقط مغشياً عليه. لم يكن في جيب سترة عبد السلام غير مصحف صغير الحجم، ودفتر مذكرات شخصية، وبعض المفاتيح، وكانت أزرار قميصه الابيض قد اُنتزعت عن أماكنها، فيما كان اللواء عبد اللطيف الدراجي وزير الداخلية أبعد الجميع عن مركز حطام الطائرة، بـثلاثين متراً، وبكامل ملابسه، عدا سترته التي كانت علي بعد عشرة أمتار، وقد تحّولت الي شبه رماد، وكان مصطفي عبد الله وزير الصناعة علي مسافة اربعة أمتار من الرئيس، وقد رقد وكيله عبد الهادي الحافظ قريباً منه، أما السبعة الآخرون، فلم يستطع أحد التعرف عليهم بشكل مطلق، سوي متصرف (محافظ) البصرة محمد الحياني، الذي عُرف من قلم الحبر الذي كان يحمله، ولربما اُمكن الاستدلال بعض الشيء علي جثة عبد الله مجيد.
وقد عُثر أيضاً علي خاتم زواج يحمل اسم السيدة (شهبال) عقيلة مصطفي عبد الله، وعلي السدارة العسكرية للعميد زاهد وعلامة ياقته الحمراء ومسدسه الشخصي.

         

اعلان الحداد الوطني

وبعد إذاعة البيان الحكومي، توالت بيانات اخري، تضمنت إعلان الحداد اعتباراً من يوم الخميس الرابع عشر من نيسان (ابريل) 1966، ولمدة شهر واحد، وتنكيس الاعلام العراقية لمدة سبعة ايام متتالية، وفرض منع التجول اعتباراً من الساعة الثانية عشر من ظهر ذلك اليوم، والي إشعار اخر، وتحديد الساعة الثالثة من ظهر يوم السبت، الموافق السادس عشر من نيسان (ابريل) 1966، السادس والعشرين من ذي الحجة 1385 هجري، موعدا لتشييع الرئيس.

حالة تأهب قصوي

دخلنا نحن في الحرس الجمهوري حالة تأهب قصوي، متوقّعين أن حادث سقوط الطائرة ربما هو مقدمة لـ(مؤامرة) لقلب نظام الحكم، لذلك فقد تهيأنا واستحضرنا للرد علي أية تحركات نشتبه بها،وقد أعاننا في ذلك(منع التجول) والذي بموجبه خلت الشوارع من السيارات والمارة في عموم بغداد، وسهّل علينا مراقبة أية حركة غير اعتيادية في المنطقة المحيطة بـحي الصالحية عموماً، ومبني الاذاعة والتلفزيون بشكل خاص.
وقد علمنا ظهر ذلك اليوم، أن مرسوماً صدر بتعيين آمر فوجنا الرائد الركن عبد الرزاق صالح العبيدي (4) سكرتيرا عاما لديوان رئاسة الجمهورية، إضافة الي منصبه الحالي، خلفاً للرائد عبد الله مجيد الذي توفي في الحادث مع رئيس الجمهورية.


هوامش:

(1) لقاء مع الملازم شهاب احمد الدليمي
(2) تقرير وكالة الانباء العراقية كتبه السيد فؤاد الخليل
(3) عين العبيدي سكرتيرا عاما لديوان الرئاسة أصالة وحل مكانه آمرا للفوج الرائد الركن كمال مجيد عبود

*الگاردينيا:العميد المهندس جهاد أحمد فخري / هو والد زميلنا العزيز المهندس أحمد فخري ..

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابفة:

http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/12519-2014-09-11-17-13-24.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

840 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع