رحيل طارق الشبلي : اللحن البصري الذي لا يصدأ

         

ودّع العراق يوم أمس الإثنين الملحّن، طارق الشبلي، الذي فارق الحياة عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عامًا، بعد صراع مع المرض لسنوات لم تفلح معه زياراته الكثيرة إلى الإطباء والمستشفيات داخل العراق وخارجه وسط اهمال الجهات الحكومية.

بغداد/ عبدالجبار العتابي : ودّعت الأوساط الفنية العراقية الملحن، طارق الشبلي، الذي جاء نعيه من البصرة حزينًا مؤلمًا بعد أن أرهقه المرض، وتخلّت عنه الحكومة على الرغم من المناشدات التي أطلقها الفنانون للعناية به وانقاذه ، فراح المرض يكبر وتشتد عليه الأوجاع وكان يهرع إلى هذا المستشفى وذاك الطبيب للعلاج، لكن حالته الصحية تدهورت حتى أصيب بالشلل، ومن ثمّ تفاقم المرض متخمًا باليأس والقسوة حتى جعله يلفظ أنفاسه الأخيرة، لتبكيه أغنياته قبل أن يبكيه محبّوه، بكته (بَعدَك بالگلب بعدَك، بعدك عايش لوحدك)، وتحسّرت (يفر بيّه هوى المحبوب يا يمّه)، وبكت (ترضون بهيمة تخلّوني ، ذبلان الشوگ البعيوني)، وأجهشت بالوجع (لو تحب لو ما تحب، هي وحدة من اثنين) وطمت خدودها (زغيرة كنت وأنت زغيرون). بل كأنه وهو يعاني سكرات الموت يردّد كلمات أغنية لحنها ولم يغنها أحد من المطربين، من كلمات الشاعر عريان السيد خلف، يقول مطلعها (سلام على الدمع حاير بالعيون، سلام على الجفن حد صفرة اللون).

الملحن الراحل طارق الشبلي، اسمه الكامل طارق شبلي فنجان السعد من مواليد المعقل - محافظة البصرة عام 1939، بدأ مشواره في الموسيقى والغناء في عام 1956، عمل عازفًا على آلة الكمان ضمن الفرق البصرية آنذاك، ومنها فرقة تلفزيون البصرة، لكنه انتمى لفرقة الموانئ مع الفنان مجيد العلي ومنها انطلق، اللحن الأوّل الذي قدّمه واشتهر في حينه كان للفنان سعدون جابر لأغنية (الصفصاف)، ثم كانت المسيرة حافلة بالأغنيات الجميلة والمؤثرة التي تجاوز عددها الـ 170 أغنية، وكل هذه الألحان التي قدّمها فيها إيقاعات بصرية، منها: يفر بيه هوى المحبوب يا يمة، لو تحب لو ما تحب هي وحدة من أثنين، أكول الله على العايل، بالله سلم سلام، لا تلوموني قلبي ما يحمل ملام، بعدك بالقلب بعدك، شوف اشسوه هجرانك، راح العزيز وروحي راحت، لعيونك أنت يا حلو، إبهيده هيده، واجب بالروح أشريك يحبيب واجب، هلا بجيتك، قلي شنو الصار، امكبعة ،مستاحش، لالي يا قمر لالي مر بوطنه ، مكحلات العيون، شوقي خذاني، زغيرة كنت وأنت زغيرون ، تقول بت عشيري ،مثل نجمة والقمر، ولاموني لاموني... وهي لعشرات المطربين من أمثال رياض أحمد، سعدون جابر، قحطان العطّار، صلاح عبد الغفور، رضا الخياط، محمد الشامي، فؤاد سالم، سيتا هاكوبيان، محمود أنور، قصي البصري، صباح السهل، سهى عبد الأمير، عبد الله رويشد وراشد الماجد.

في الثمانينيات اقترحوا عليه العمل في قطر وأعطوه مبلغًا جيدًا وطلبوا منه أن يبقى في تلفزيون قطر، وقال: "تراب خمس ميل (وهي منطقة في البصرة) يسوى ألف قطر"، ويعلّل السبب بالقول أن عنده حبّ للبصرة ويقدسها ويحب أهلها أكثر من روحه.

الراحل وقبل أن يداهمه المرض امتنع عن التلحين احتجاجًا على الاهمال الذي لقيه، ووجد نفسه يعمل معاون مدير مبيعات في شركة صغيرة في البصرة، وحينها قال: "أشعر بخيبة أمل كبيرة في الحكومة الجديدة، وعدم الإلتفات إلى الفنانين الكبار أصحاب العطاء، حتى أني صرت أخفي هويتي الفنية عند تعاملي مع الآخرين ومراجعتي للدوائر، علمًا أني لم أمسك آله موسيقية للعزف أو التلحين منذ سنوات".

عانى الراحل من ورم خلف رأسه من الجهة اليسرى تسبّب بشلل في الجهة اليمنى من الجسم، وهو ما جعله يسافر إلى أربيل للعلاج في أحد مستشفياتها، حيث أزيل الورم، لكنه سرعان ما عاد، فاضطر إلى أن يسافر إلى إيران أكثر من مرة، لكنه كلما أزاله سرعان ما يعود للنمو من جديد.

قال عنه المطرب قحطان العطار : "عاش الفنّان المُرهف الإحساس كل حياته بلا أمان، فكان ديدنُهُ الحُب وظلّ يعزف كلّ حياته على هذا الوتر، فجاءت مئات الآلحان تتغنّى بالحب منها (لو تحب لو ما تحب)، وأغنيه لا يعلم بها أحد غيري، فحين كنت في الكويت الحبيبة أنذاك بعثها لي بكاسيت يقول مطلعها : (ظل إلعب بكًلبي لعب وأتمرجح بسبّاحه، بس كون إنته بفرح ما ريد أنه الرّاحة) ما أجملٌها، بحيث وهو لا يدري صُرت اٌغنّيها لنفسي فقط لأسباب عاطفيّة. ياحبيبي يا أيّها الشّبلي".

أمّا الملحّن سرور ماجد فقال : "هذهِ نجمةٌ أخرى تسقط من سماء العراق سماء الأغنية العراقية، رحلَ الغالي الملحن الكبير طارق الشبلي، صديقي العزيز. آخر مشاركاته الفنية كانتَ معي في برنامج (المايكرفون الذهبي). إنا لله وإنا اليه راجعون. أنتم السابقون ونحنُ اللاحقون. أسكنكَ الله فسيح جناته أيها الغالي، ليفرح المسؤلون لغيابك، حتى يعمّ التخلّف في كل شيء. إلى رحمة الله صديقي الغالي".

في ما قال الفنان جعفر حسن مخاطبًا إياه: "وداعًا أيها الصديق الفنان الرائع الكبير طارق الشبلي، لقد نزل خبر رحيلك عليّ اليوم كالصاعقة وأنا ما زلت أودع شقيقتي والوالدة في خلال إسبوع فقط، لم يجفّ الدمع بعد ورحيلك قد زاده انفجارًا. ما زال المارش الحزين يطرق أسماعنا برحيلكم، لماذا وكيف تحلّ بنا هذه الكوارث ونودّع الأعزاء ومن نحبّ كل يوم. نحن نزع الأمل والبسمة عند الناس يا أبا زياد فلماذا يزورنا الحزن والألم دومًا؟".

وأضاف :  "نم قرير العين يا طارق ستبقى ألحانك ونفحاتك الممزوجة بعطر البحر والنخيل والبصرة تحلق بنا في كل العراق".

أمّا الملحّن علي سرحان فقال : "الفنان الراحل طارق الشبلي رمز من رموز الأغنية العراقية الراقية، قدّم وأبدع وصال وجال في سماء الأغنية وكان يعمل في هدوء وصمت، كان يفاجئُنا بأعماله الخالدة، قدّم للوسط الغنائي أكثر من مطرب صارت له مكانة مميزة. أتمنى من الساسة أن يلتفتوا التفاتة حقيقة لا مجرّد وعود إلى الفنانين، لأنهم وجه العراق في الأدب والثقافة، وتشهد الساحة العربية والعراقية على إبداعهم وهذه أمانة في أعناقهم وسيذكر التاريخ من قدّم لهؤلاء الناس الدعم وساعدهم خدمة للوطن".

أمّا الناقد والشاعر علي الفواز فقال عنه : "رحيل الفنان المدهش طارق الشبلي يضعني عند وحشة الفقدان، وعند الإحساس برعب أن يكون الإنسان بلا حصانة جمالية، وبلا خفة تلامس روحه المحاصرة بأثقال الحروب والعنف والقسوة، الشبلي ينتمي إلى اللحنية التطريبية، وإلى سحر موسيقى البوب العراقي، لأنه زاوج ما بين الحسّ المديني بإشراقاته الهادئة، وبين أغنية الريف بطبيعتها الحادّة، وهذا التزاوج يعكس وعيًا فنيًا مميزًا بطراوة الجملة الموسيقية، وقدرته على اختيار البنيات المقامية الموائمة لها، مثلما يعكس حساسيته أزاء كلّ التطورات اللحنية التي يمثلها طالب القره غولي، ومحمد جواد أموري، ومحسن فرحان، وأحسب أن ارتباط الكثير من الأغاني العراقية في السبعينات وخصوصًا سيتا هاكوبيان ومحمد الشامي وغيرهما، يدّل على هذه الخاصية التي جعلته أكثر تدفقًا، وعلى الرغم من تاريخ العزلة التي عاشها الشبلي ولأسباب سياسية معروفة، إلاّ أنه ظل واحدًا من صنّاع الذاكرة اللحنية التي نستعيدها الآن بوجع ونحن عند عتبة الفقدان".

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

510 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع